الاثنين، 7 أغسطس 2017

مات عميد اللغة العربية في مالي



مات عميد اللغة العربية في مالي
انتقل إلى رحمة الله الأستاذ "عمر كان" يوم الاثنين 17 من شهر يوليو 2017 م و وُوري جثمانه يوم الثلاثاء بعد صلاة العصر في مدينة سيغو، مسقط رأسه.
كان أول احتكاكي مع الأستاذ "عمركان" في شهر ديسمبر عام 1991 م، بعد عودتي من الدراسة في الأزهر الشريف. وكان قد عُين قبل ذلك بقليل مفتشا للغة العربية للتعليم الثانوي بوزارة التربية والتعليم. ويعتبر أول مفتش رسمي لهذه المرحلة في مالي. والتعليم العربي بكل مستوياته كانت تحت إشراف مدير قسم رقي اللغة العربية بالوزارة، والذي أصبح اليوم قسم المدارس العربية بوزارة التعليم الأساسي.
والذي عرّفني به هو المرحوم محمد علي تيام، حيث التقيت به عند رحلة العودة في المغرب، فاقتربت منه وتعارفنا. ثم أخبرته بهمومي للتعليم العربي الإسلامي، وأريته شهاداتي، وبحثا بعنوان "مسئوليتنا نحن الأفارقة عن التخلف الذي تعيشه الدول السوداء" وهو بحث ألقيته في ندوة ثقافية عامة في نادي الوافدين بالقاهرة، تحت رعاية اتحاد طلبة السنغال. وقد أثار البحث ضجة كبرى أيامها في أوساط الطلاب الوافدين في القاهرة، حيث تعرض للخلافات المدرسية التي تعرقل دور الدارسين باللغة العربية في تنمية القارة السوداء، وقدم مشروع حلول للقضاء على هذه الخلافات. كما تعرض لنقد الدول العربية وجامعاتها التي كانت تحصر كل الطلاب في الدراسات الإسلامية واللغوية دون الأقسام العلمية.
المهم، أُعجب رئيس قسم رقي اللغة العربية بهذا البحث وبشهاداتي. وقال لي: بمجرد وصولك أرجو أن تأتي إلى الوزارة بشهاداتك، وببحثك لنطبعه وننشره.
وفعلا، بعد أيام قدمت إلى الوزارة، فأخذ بيدي وذهب بي إلى مكتب الأستاذ "عمر كان" وقال له: "اهتمَّ بهذا الشاب فإنه كان ممتازا في الأزهر!" من ذلك اليوم توطدت العلاقة بيني وبين "عمركان" فأخذ شهاداتي وقدمها للمترجمين ثم ذهب بها إلى مصلحة الأشغال العامة بنفسه (Office nationale de main d'œuvre ) وكانت هذه المصلحة هي التي تعين المدرسين المتعاقدين (Vacataires). لكنني لم أحظ بالقبول في ذاك العام؛ لأن فترة القبول كانت قد انتهت. ووعدوني بالقبول في العام اللاحق.
وفي أكتوبر عام 1992 م، ظهر اسمي بين المقبولين في وظيفة التعاقد، بنفس الطلب الذي قدمه المفتش "عمر كان". ومع أنني لم أعين موظفا في العام الأول، إلا أنه أخذني مستشاره الخاص في كل ما يتعلق باللغة العربية.
دعاني يوما، فقال لي: يا طاهر، هناك بعض الفرص يجب أن تستغل لخدمة اللغة العربية! قلت له: ما هي؟ فقال: "منها: هذه الإضرابات المستمرة من اتحاد تلاميذ وطلاب مالي (A.E.E.M)
للمطالبة بتحسين أوضاعهم الدراسية. هلا قام تلامذة المدارس العربية الإسلامية بتقديم مطالبهم للاتحاد لإدراجها في قائمة المطالب؛ ما داموا عضوا فعالا في الاتحاد! وحقا قام كوكبة نشطة من هؤلاء التلاميذ بتنفيذ المهمة. منهم أحمد عمار ديكو الذي أصبح اليوم دكتورا يدرس في الجامعة الإسلامية بالنيجر. وقام الاتحاد الوطني للطلاب بإدراج مطالب المدارس العربية الإسلامية في قائمة المطالب.
ومن مطالبهم الاعتراف بالتعليم الثانوي العربي وبشهاداته، وفتح شعبة للغة العربية في المدرسة العليا لإعداد المعلمين (ENSUP). والفرصة الثانية التي يمكن استغلالها هو تعيين (بابا عاقب حيدرا) وزيرا للتعليم، وهو رجل عالم من كبار المثقفين في مالي، أحد خبراء منظمة اليونسكو سابقا، من مواطني تمبكتو. وكان يتواطأ ويتعاطف مع دارسي اللغة العربية.
والفرصة الثالثة التي استغلها السيد المفتش هي هذه المرأة البرزة المثقفة (بنت سننكوا) أخت الأستاذ محمد سننكوا، التي عينت بدورها مديرة للتعليم الثانوي العام والتقني في مالي.
وقد وافقت الوزارة على الاعتراف بالتعليم الثانوي العربي، وطلبت من المفتش تقديم مشروع منهج لهذه المرحلة لاعتمادها. فقام المفتش "عمر كان " باستقطاب النخبة الفتية من خريجي الجامعات العربية آنئذ لهذه المهمة، وكنت واحدا منهم. فوضعنا مناهج للصفوف الثانوية الثلاثة في وقت قياسي؛ فقامت الوزارة باعتمادها. وأشرفت لأول مرة في تاريخ التعليم العربي الإسلامي في مالي على الإشراف على امتحانات البكالوريا في هذه المدارس في يونيو عام 1992 م ولكن بأسئلة مختلفة. ثم قامت بتنظيم نفس الامتحانات في العام التالي 1993 م، ولكن هذه المرة بأسئلة موحدة لجميع المدارس.
لم تتمكن الوزارة من فتح باب التعليم العالي لهؤلاء بعد امتحانات عام 1992 م. لكن بعد امتحان الفوج الثاني عام 1993 م، كانت مضطرة لوجود منفذ لهم؛ وذلك بضغط من الاتحاد الوطني للطلاب. وقامت الوزارة – تحت هذا الضغط – بالسعي لدى شركائها من الدول العربية لمساعدة طلاب المدارس العربية الإسلامية الحاصلين على الشهادة الثانوية الرسمية. فوافقت الجماهيرية العربية الليبية العظمى على مد يد العون لهؤلاء المستضعفين. ففُتح قسم خاص للغة العربية في المدرسة العليا لإعداد المعلمين في مالي. في مطلع العام الدراسي الجديد أواخر عام 1993 م.
واختير لهذا القسم في البداية فصلان في المركز الثقافي الإسلامي، ريثما توجد فصول في مقر المدرسة العليا. وبعد شهرين تم نقل القسم إلى مقره الذي لا يزال فيه إلى الآن.
 وعين المفتش "عمر كان" منسقا لهذا القسم، تحت رئاسة القسم الفرنسي؛ لظروف إدارية.
توقف تنظيم الشهادة الثانوية الرسمية على هذين الفوجين؛ بعد هجوم شرس قام به رئيس مركز رقي اللغة العربية على هذا التنظيم؛ لأنه كان يرى التدرج في تنظيم هذه المرحلة. ويعني ذلك أن تعترف الوزارة بالصف الأول الثانوي في العام الأول ثم بالصف الثاني الثانوي في العام الثاني، ثم أخيرا تنظيم الشهادة الثانوية في العام الثالث.
وكان المفتش "عمر كان" يرى أن نطرق الحديد وهو ساخن؛ فقد كانت الظروف متاحة للوصول إلى هذا الهدف النبيل تحت هذه الزوبعة السياسية. ويعني ذلك أن تعترف الوزارة بالمراحل الثلاث جملة واحدة؛ لأن هذه المرحلة كانت موجودة فعلا منذ سنوات في المدارس العربية الإسلامية. وهذا الرأي الأخير هو الذي اختارته الوزارة تحت تهديد اتحاد الطلاب.
وبقي المفتش "عمر كان" منسقا لهذه الشعبة في المدرسة العليا ومفتشا للتعليم الثانوي إلى منتصف عام 1996 م، عند ما أقيل من منصبه كمفتش. وتفرغ بعد ذلك لهذه الشعبة، حيث أعطاها كل ما في طاقته من علم وخبرة، إلى أن حصل على منحة دراسية لمواصلة الدراسة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والتي تحول منها بعد ذلك إلى جامعة الملك سعود.
ومن صفات الأستاذ "عمر كان" أنه كان عالما باللغة مبرَّزا فيها، فصيحا بليغا يتحدث بها بطلاقة طبيعية غريبة، لا يبحث عن المفردات عند الحديث، بل تأتيه طوعا سلسا. وكان يحب ذوي الكفاءات العالية ويكره الإهمال والمهملين. كان شهما شجاعا، لا يخاف في سبيل الحق لومة لائم، وكان طموحا إلى المعالي مع عاطفة مشبوبة هياجة.
قضى حياته في خدمة اللغة العربية وطلابها. وكان يقول: "إن اللغة العربية كياننا وجزء منا" وحتى فكرة إنشاء نادٍ أدبي كانت من بنات أفكاره. وعلى إثر ذلك أنشأنا نادي الأدب والثقافة المشهور. وقد لقي في سبيل هذه الخدمة المتفانية كثيرا من الأذى والضرر، ولعل ما أصيب بها من أمراض وإحباط نفسي في أخريات أيامه، كانت نتيجة لهذا الإنكار لجميله الذي أسداه لكل دارس باللغة العربية. إن كل مدرس اليوم في المرحلة الثانوية وفي الجامعة مدين للأستاذ "عمر كان"؛ لأنه يستظل تحت شجرة غرس أغصانَها عمر! ولا أبالغ إذا قلت إن المفتش (عمر كان) يعتبر رائد حركة الإصلاح والنهضة للتعليم العربي الإسلامي المعاصر في مالي الديمقراطية.
رحم الله "عمر" وأسكنه فسيح جناته، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وجعل أسرته تحت الرعاية الربانية، إنه مجيب سميع الدعاء.
                                                                        بقلم الأستاذ/ محمد الطاهر ميغا
                                                                               مفتش لغة عربية
                                                                           بماكو 24-07 – 2017  

هناك تعليق واحد:

  1. إنها الآجال والمقادير : إنا لله وإنا إليه راجعون
    الله أسأل أن يتغمد عميد اللغة العربية في مالي (الأستاذ المخلص عمر كان) بواسع رحمته ويسكنه الفردوس الأعلى، اللهم ألهم أهله وذويه الصبر والسلوان .. إنا لله وإنا إليه راجعون.
    لقد كان الفقيد "عمر كان" مخلصا أيما إخلاص في كافة شؤونه العلمية والعملية، بل كان لطيفا حكيما مع رفقائه وأصدقائه. فجزاه عنا وعن دارسي اللغة العربية في مالي خير الجزاء وأحسنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    ردحذف